السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا درس فلسفي عن الفلسفة يلاحظ كانط أنه لكي "تحفظ" الفلسفة وتنطبع في الذاكرة أو الذهن لا بد أن توجد أولا وجودا عينيا وبصورة تجعلنا نستطيع أن نقرر ما يلي: "… إن هذا علم ومعارف يقينية، تدربوا على فهمه واحفظوه ثم ابنوا عليه فيما بعد، وستصبحون فلاسفة"
بمعنى آخر إن "الفلسفة لا تعلم" لأنها ليست علما بعد، كما سيقول هوسرل؛ فقد "كان يحلو لكانط القول إننا لا نستطيع أن نتعلم الفلسفة وإنما فقط التفلسف. وهذا إن كان يعني شيئا، فهو الإقرار بالطابع اللاعلمي للفلسفة، فبقدر ما يكون العلم علما حقيقيا، بقدر ما نستطييع تعليمه وتعلمه، وهذا ينطبق على جميع المجالات"
لقد كان كانط مدرسا يعرف ما عليه وما ينبغي أن يعمله لتلامذته. لهذا فبدل أن يقدم لهم عقلا جاهزا، كان همه الأول أن يثير لديهم فعالية الروح النقدية.
في قسم الفلسفة لا يتعلم التلاميذ الأفكار، لأن تلك الأفكار تأتي في غير أوانها فتقلص حركة الفكر بدل أن توقظه وتحرره. يقول كانط: "ينبغي أن يذهب التلاميذ إلى المدرسة، لا ليتعلموا الأفكار هناك، ولكن ليتعلموا التفكير والسلوك"
يعتقد التلميذ الذي يلج الجامعة أنه سيتعلم "الفلسفة"، وهذا أمر مستحيل، لأن ما يتوجب تعلمه آنذاك هو التفلسف. وتأكيدات كانط بهذا الشأن متعددة ومتكررة في جميع مؤلفاته النقدية: "لا يمكننا تعلم الفلسفة لأنها لم توجد بعد…"، "ما الفلسفة إلا مجرد فكرة لعلم ممكن.."، "لا يمكن للمرء لحد الآن تعلم أية فلسفة، إذ أين هي؟ ومن يمتلكها وأية علامة تدل عليها؟"
إن من يعتقد في تعليم الفلسفة هو بالتأكيد من لم يفهم ماهيتها؛ لأنه بذلك يعتبرها علما قائما بذاته، في حين أنه من "الادعاء أن يسمي المرء نفسه فيلسوفا وأن يزعم أنه وصل إللا مضاهاة النموذج الذي لا وجود له إلا وجود فكرة"
لا وجود إذن للفلسفة ولا للفيلسوف إلا وجود "فكرة: أو "نموذج". لكن ماذا يتبقى تحت اسم "الفلسفة" في هذه الحالة؟ ثم ماذا نفعل بركام المعارف المحشورة داخل ما يطلق عليه "تاريخ الفلسفة"؟
من المفيد هنا الرجوع إلى التمييز الذي أحدثه كانط داخل المعرفة، بين المعرفة التاريخية والمعرفة العقلية، من حيث إن الأولى معرفىة بالتواريخ والثانية معرفة بالمبادئ ()؛ فإذا افترضنا وجود الفلسفة وجودا عيانيا وفعليا، فإنه ما من أحد من الذين يلمون بها يمكنه أن يتسمى فيلسوفا، لأن معرفته بها ستظل ذاتيا تاريخية، ما دام لا يعرف شيئا غير ما سبق أن أعطي له في مكان آخر، سواء كان تحصيله قد تم بواسطة التجربة المباشرة أو عن طريق الحكاية أو حتى بواسطة التعليم. ومعنى ذلك أن عملية التعليم هنا لا تتعدى الإلمام الخارجي بنتاج فكري معطى، لا تغير عملية الاستيعاب من خارجيته شيئا، حيث تظل تلك المعرفة "تاريخية" يتم تلقيها من الخارج بدل أن "تصدر من العقل" ذاته.
يمثل كانط لهذا التقابل بين "التاريخي" و"العقلي"، أي المعرفة كركام من الحقائق تنتشر وتدعم بـ"التقليد"، والعمل الفلسفي كمجهود شاق واكتشاف "اصيل"، بشخص حفظ نسقا فلسفيا، وليكن نسق الفيلسوف ولفWolf). إن مثل هذا الشخص قد ملأ رأسه بكل المبادئ والتعريفات والبراهين إضافة إلى جميع أقسام المذهب، بحيث يكون بمقدوره أن يعد على أصابعه كل الأجزاء. مثل هذا الشخص لا يمتلك مع ذلك سوى معرفة تاريخية شاملة بفلسفة فولف، ولن يعرف إلا ما قدم له ولن يحكم إلا من خلاله؛ فلو عارضته بصدد تعريف من التعريفات، فإنه لن يعرف أين يجد تعريفا آخر؛ إذ أنه تكون من خلال عقل خارجي. لكن القدرة على التقليد هي غير القدرة على الاكتشاف، ومعنى ذلك أن المعرفة لم تحصل لديه عن طريق العقل، فرغم كونها معرفة عقلية موضوعية فإنه مع ذلك لا تعدو أن تكون معرفة تاريخية ذاتيا.
.
ســـــــــــــــــلام